فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلّ أُمَّةٍ}.
من الأمم الخالية {رَّسُولًا أَنِ اعبدوا الله} وحده {واجتنبوا الطاغوت} هو كل ما يدعو إلى الضلالة، وقال الحسن: هو الشيطان، والمراد من اجتنابه اجتناب ما يدعو إليه.
{فَمِنْهُمْ} أي من أولئك الأمم {مَّنْ هَدَى الله} إلى الحق من عبادته أو اجتناب الطاغوت بأن وقفهم لذلك {وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة} ثبتت ووجبت إذ لم يوفقهم ولم يرد هدايتهم، ووجه الإشارة أن تحقق الضلال وثباته من حيث إنه وقع قسيمًا للهداية التي هي بإرادته تعالى ومشيئته كان هو أيضًا كذلك.
وأما أن إرادة القبيح قبيحة فلا يجوز اتصاف الله سبحانه بها فظاهر الفساد لأن القبيح كسب القبيح والاتصاف به لا إرادته وخلقه على ما تقرر في الكلام.
وأنت تعلم أن كلتا الإشارتين في غاية الخفاء، ولينظر أي حاجة إلى الحص وما المراد به على جعل {فَهَلْ عَلَى الرسل} [النحل: 35]. إلى آخره مشيرًا إلى جواب الشبهة الأولى.
وقال الإمام: إن المشركين أرادوا من قولهم ذلك أنه لما كان الكل من الله تعالى كان بعثه الأنبياء عليهم السلام عبثًا فنقول.
هذا اعتراض على الله تعالى وجار مجرى طلب العلة في أحكامه تعالى وأفعاله وذلك باطل إذ لله سبحانه أن يفعل في ملكه ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا يجوز أن يقال له لم فعلت هذا ولم لم تفعل ذاك.
والدليل على أن الإنكار إنما توجه إلى هذا المعنى أنه تعالى صرح بهذا المعنى في قوله سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا} إلى آخره حيث بين فيه أن سنته سبحانه في عباده إرسال الرسل إليهم وأمرهم بعبادته ونهيهم عن عبادة غيره، وأفاد أنه تعالى وإن أمر الكل ونهاهم إلا أنه جل جلاله هدى البعض وأضل البعض، ولا شك أنه إنما يحسن منه تعالى ذلك بحكم كونه إلهًا منزهًا عن اعتراضات المعترضين ومطالبات المنازعين، فكان إيراد هذا السؤال من هؤلاء الكفار موجبًا للجهل والضلال والبعد عن الله المتعال، فثبت أن الله تعالى أنما ذم هؤلاء القائلين لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثة الرسل لا لأنهم كذبوا في قولهم ذلك، وهذا هو الجواب الصحيح الذي يعول عليه في هذا الباب، ومعنى {فَهَلْ عَلَى الرسل} [النحل: 35]. إلى آخره أنه تعالى أمر الرسل عليهم السلام بالتبليغ فهو الواجب عليهم، وإما أن الإيمان هل يحصل أولًا يحصل فذاك لا تعلق للرسل به ولكن الله تعالى يهدي من يشاء بإحسانه ويضل من يشاء بخذلانه اه وهو كما ترى.
ونقل الواحدي في الوسيط عن الزجاج أنهم قالوا ذلك على الهزو ولم يرتضه كثير من المحققين، وذكر بعضهم أن حمله على ذاك لا يلائم الجواب.
نعم قال في الكشف عند قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْ شَاء الرحمن مَا عبدناهم} [الزخرف: 20]. إنهم دفعوا قول الرسل عليهم السلام بدعوتهم إلى عبادته تعالى ونهيهم عن عبادة غيره سبحانه بهذه المقالة وهم ملزمون على مساق هذا القول لأنه إذا استند الكل إلى مشيئته تعالى فقد شاء إرسال الرسل وشاء دعوتهم إلى العباد وشاء جحودهم وشاء دخولهم النار، فالإنكار والدفع بعد هذا القول دليل على أنهم قالوه لا عن اعتقاد بل مجازفة، وقال في موضع آخر عند نظير الآية أيضًا: إنهم كاذبون في هذا القول لجزمهم حيث لا ظن مطلقًا فضلًا عن العلم، وذلك لأن من المعلوم أن العلم بصفات الله تعالى فرع العلم بذاته والإيمان بها كذلك والمحتجون به كفرة مشركون مجسمون، وأطال الكلام في هذا المقام في سورة الزخرف.
وذكر أن في كلامهم تعجيز الخالق بإثبات التمانع بين المشيئة وضد المأمور به فيلزم أن لا يريد إلا أمر به ولا ينهى إلا وهو لا يريده، وهذا تعجيز من وجهين إخراج بعض المقدورات عن أن يصير محلها وتضييق محل أمره ونهيه وهذا بعينه مذهب إخوانهم القدرية اه ويجوز أن يقال: إن المشركين إنما قالوا ذلك إلزامًا بزعمهم حيث سمعوا من المرسلين وأتباعهم أن ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن وإلا فهم أجهل الخلق بربهم جل شأنه وصفاته {إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان: 44]، ومرادهم إسكان المرسلين وقطعهم عن دعوتهم إلى ما يخالف ما هم عليه والاستراحة عن معارضتهم فكأنهم قالوا: إنكم تقولون ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن فما نحن عليه مما شاءه الله تعالى وما تدعونا إليه مما لم يشأه وإلا لكان، واللائق بكم عدم التعرض لخلاف مشيئة الله تعالى، فإن وظيفة الرسول الجري على إرادة المرسل لأن الإرسال إنما هو لتنفيذ تلك الإرادة وتحصيل المراد بها، وهذا جهل منهم بحقيقة الأمر وكيفية تعلق المشيئة وفائدة البعثة، وذلك لأن مشيئته تعالى إنما تتعلق وفق علمه وعلمه إنما يتعلق وفق ما عليه الشيء في نفسه، فالله تعالى ما شاء شركهم مثلًا إلا بعد أن علم ذلك وما علمه إلا وفق ما هو عليه في نفس الأمر فهم مشركون في الأزل ونفس الأمر ألا أنه سبحانه حين أبرزهم على وفق ما علم فيهم لو تركهم وحالهم كان لهم الحجة عليه سبحانه إذا عذبهم يوم القيامة إذ يقولون حينئذ: ما جاءنا من نذير فأرسل جل شأنه الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فليس على الرسل إلا تبليغ الأوامر والنواهي لتقوم الحجة البالغة لله تعالى، فالتبليغ مراد الله تعالى من الرسل عليهم السلام لإقامة حجته تعالى على خلقه به، وليس مراده من خلقه إلا ما هم عليه في نفس الأمر خيرًا كان أو شرًا.
وفي الخبر يقول الله تعالى: «يا عبادى إنما أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» ولا منافاة بين الأمر بشيء وإرادة غيره منه تعالى لأن الأمر بذلك حسبما يليق بجلاله وجماله، والإرادة حسبما يستدعيه في الآخرة الشيء في نفسه، وقد قرر الجماعة إنفكاك الأمر عن الإرادة في الشاهد أيضًا وذكر بعض الحنابلة الانفكاك أيضًا لكن عن الإرادة التكوينية لا مطلقًا، والبحث مفصل في موضعه، وإذا علم ذلك فاعلم أن قوله سبحانه: {فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ} [النحل: 35]. يتضمن الإشارة إلى ردهم كأنه قيل: ما أشرتم إليه من أن اللائق بالرسل ترك الدعوة إلى خلاف ما شاءه الله تعالى منا والجري على وفق المشيئة والسكوت عنا باطل لأن وظيفتهم والواجب عليهم هو التبليغ وهو مراد الله تعالى منهم لتقوم به حجة الله تعالى عليكم لا السكوت وترك الدعوة، وفي قوله سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا} إلخ. إشارة يتفطن لها من له قلب إلى أن المشيئة حسب الاستعداد الذي عليه الشخص في نفس الأمر فتأمل فإن هذا الوجه لا يخلو عن بعد ودغدغة.
والذي ذكره القاضي في قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا} إلخ. أنه بين فيه أن البعثة أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم كلها سببًا لهدي من أراد سبحانه اهتداءه وزيادة لضلال من أراد ضلاله كالغذاء الصالح ينفع المزاج السوي ويقويه ويضر المنحرف ويفنيه.
وفي إرشاد العقل السليم أنه تحقيق لكيفية تعلق مشيئته تعالى بأفعال العباد بعد بيان أن الإلجاء ليس من وظائف الرسالة ولا من باب المشيئة المتعلقة بما يدور عليه فلك الثواب والعقاب من الأفعال الاختيارية، والمعنى إنا بعثنا في كل أمة رسولًا يأمرهم بعبادة الله تعالى واجتناب الطاغوت فأمروهم فتفرقوا فمنهم من هداه الله تعالى بعد صرف قدرته واختياره الجزئي إلى تحصيل ما هدى إليه ومنهم من ثبت على الضلالة لعناده وعدم صرف قدرته إلى تحصيل الحق، والفاء في {فَمِنْهُمْ} نصيحة كما أشار إليه، وكان الظاهر في القسم الثاني ومنهم من أضل الله إلا أنه غير الأسلوب إلى ما في النظم الكريم للإشعار بأن ذلك لسوء اختيارهم كقوله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80]، و{إن} يحتمل أن تكون مفسرة لما في البعث من معنى القول وأن تكون مصدرية بتقدير حرف الجر أي بأن اعبدوا الله {فَسِيرُواْ} أيها المشركون المكذبون القائلون: لو شاء الله ما عبدنا من دونه {فِى الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين} من عاد وثمود ومن سار سيرهم ممن حقت عليه الضلالة وقال كما قلتم لعلكم تعتبرون، وترتيب الأمر بالسير على مجرد الإخبار بثبوت الضلالة عليهم من غير إخبار بحلول العذاب للإيذان بأن ذلك غني عن البيان، وفي عطف الأمر الثاني بالفاء إشعار بوجوب المبادرة إلى النظر والاستدلال المنقذين من الضلال.
{إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ} خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والحرص فرط الإرادة.
وقرأ النخعي {وَأَنْ} بزيادة واو وهو، والحسن، وأبو حيوة {تَحْرِصْ} بفتح الراء مضارع حرص بكسرها وهي لغة، والجمهور: {تَحْرِصْ} بكسر الراء مضارح حرص بفتحها وهي لغة الحجاز {فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ} جواب الشرط على معنى فاعلم ذلك أو علة للجواب المحذوف أي أن تحرص على هداهم لم ينفع حرصك شيئًا فإن الله تعالى لا يهدي من يضل، والمراد بالموصولة قريش المعبر عنهم فيما مر بالذين أشركوا، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتنصيص على أنهم ممن حقت عليهم الضلال وللإشعار بعلة الحكم.
ويجوز أن يراد به ما يشملهم ويدخلون فيه دخولًا أولياء، ومعنى الآية على ما قيل: أنه سبحانه لا يخلق الهداية جبرًا وقسرًا فيمن يخلق فيه الضلالة بسوء اختياره ولابد من نحو هذا التأويل لأن الحكم بدون ذلك مما لا يكاد يجهل، و{مِنْ} على هذا مفعول {يَهْدِى} كما هو الظاهر، وقيل: إن يهدي مضارع هدى بمعنى اهتدى فهو لازم و{مِنْ} فاعله وضمير الفاعل في {يُضِلَّ} لله تعالى والعائد محذوف أي من يضله، وقد حكى مجيء هدى بمعنى اهتدى الفراء.
وقرأ غير واحد من السبعة والحسن والإعرج ومجاهد وابن سيرين والعطاردي ومزاحم الخراساني وغيرهم {لاَّ يَهِدِّى} بالبناء للمفعول فمن نائب الفاعل والعائد وضمير الفاعل كما مر، وهذه القراءة أبلغ من الأولى لأنها تدل على أن من أضله الله تعالى لا يهديه كل أخد بخلاف الأولى فإنها تدل على أن الله تعالى لا يهديه فقط وإن كان من لم يهد الله فلا هادي له، وهذا على ما قيل إن لم نقل بلزوم هدى وأما إذا قلنا به فهما بمعنى إلا أن هذه صريحة في عموم الفاعل بخلاف تلك مع أن المتعدي هو الأكثر.
وقرأت فرقة منهم عبد الله: {لاَّ يَهِدِّى} بفتح الياء وكسر الهاء والدال وتشديهدا، وأصله يهتدي فأدغم كقولك في يختصم يخصم.
وقرأت فرقة أخرى {لاَّ يَهِدِّى} بضم الياء وكسر الدال، قال ابن عطية: وهي ضعيفة، وتعقبه في البحر بأنه إذا ثبت هدى لازمًا بمعنى اهتدى لم تكن ضعيفة لأنه ادخل على اللازم همزة التعدية، فالمعنى لا يجعل مهتديًا من أضله.
وأجيب بأنه يحتمل أن وجه الضعف عنده عدم اشتهار أهدى المزيد.
وقرئ {يُضِلَّ} بفتح الياء، وفي مصحف أبي: {فَإِنَّ الله لاَ هَادِيَ لِمَنْ أَضَلَّ} {وَمَا لَهُم مّن ناصرين} ينصرونهم في الهداية أو يدفعون العذاب عنه وهو تتميم بإبطال ظن أن آلهتهم تنفعهم شيئًا وضير لهم عائد على معنى من وصيغة الجمع في الناصرين باعتبار الجمعية في الضمير فإن مقابلة الجمع بالجمع تفيد إنقسام الآحاد على الآحاد لا لأن المراد نفي طائفة من الناصرين من كل منهم.
ثم إن أول هذه الآيات ربما يوهم نصرة مذهب الاعتزال كلن آخرها مشتمل على الوجوه الكثيرة كما قال الإمام الدالة على نصرة مذهب أهل الحق، ولعل الأمر غني عن البيان ولله تعالى الحمد على ذلك.
{وَأَقْسَمُواْ بالله} شروع في بيان فن آخر من أباطيلهم وهو إنكارهم البعث، وهو على ما في الكشاف وغيره عطف على قوله تعالى: {وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ} [النحل: 35]. قيل: ولتضمن الأول إنكار التوحيد وهذا إنكار البعث وهما أمران عظيمان من الكفر والجهل حسن العطف بينهما، والضمير لأهل مكة أيضًا أي حلفوا بالله {جَهْدَ أيمانهم} مصدر منصوب الحال أي جاهدين في أيمانهم {لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} وهو مبني على أن الميت يعدم ويفنى وأن البعث إعادة له وأنه يستحيل إعادة المعدوم، وقد ذهب إلى هذه الاستحالة الفلاسفة ولم يوافقهم في دعوة ذلك أحد من المتكلمين إلا الكرامية وأبو الحسين البصري من المعتزلة، واحتجوا عليها بما رده المحققون، وبعضهم ادعى الضرورة في ذلك وأن ما يذكر في بيانه تنبيهات عليه، فقد نقل الإمام عن الشيخ أبي علي بن سينا أنه قال: كل من رجع إلى فطرته السليمة ورفض عن نفسه الميل والتعصب شهد عقله الصريح بأن إعادة المعدوم بعينه ممتنعة؛ وفي قسم هؤلاء الكفار على عدم البعث إشارة كما قال في التفسير إلى أنهم يدعون العلم الضروري بذلك.